فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (90):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}.
التفسير:
هذه الآية مكملة لما قبلها.
فبعد أن بيّن اللّه سبحانه وتعالى المصير المشئوم الذي سيقع على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب.. الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول الذي ظهر فيهم هو رسول رب العالمين، يحمل آيات الهدى والنور من ربه.. وبعد أن ألبسهم اللّه ثوب اللعنة، ثم فتح باب الرحمة لمن نزع منهم عن غيّه وضلاله، وفاء إلى الحق، ورجع إلى اللّه تائبا، مصلحا ما أفسد من دينه وفى دينه- بعد هذا بيّن اللّه موقف المتعنتين من هؤلاء الضالين الظالمين، الذين دعاهم اللّه تعالى إلى جناب رحمته ومغفرته، فأبوا أن يستجيبوا، ولم يزدهم هذا الدعاء الكريم، من رب كريم، إلا إصرارا وعنادا، وإغراقا في الإثم، واستغراقا في الضلال- فهؤلاء لن تقبل توبتهم، ولن يلقاهم اللّه برحمته ومغفرته.. {وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}.
والسؤال هنا:
أهناك من يتوب، ويمدّ يده إلى اللّه بالصفح والمغفرة.. ثم يردّ، ولا صفح ولا مغفرة؟
والجواب، أن اللّه سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى التوبة، ويفتح لهم باب القبول والصفح، فيقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [222: البقرة] ويقول جل شأنه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [31: النور] ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} [75: الشورى].
فكيف لا يقبل اللّه توبة من جاء إليه ملبيّا نداءه، باسطا إليه يده بالتوبة والإنابة؟
والآية هنا تقول {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} فهؤلاء الذين كفروا هم الذين أشارت إليهم الآية السابقة في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إنهم- والأمر كذلك- ليسوا مجرد كافرين، ولدوا في الكفر، ونشأوا على الكفر، وإنما هم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد هدى.. وليس هذا وحسب، بل إنهم تعمّدوا الخروج من الإيمان، وأطفئوا بأيديهم وبأفواههم النور الذي كان معهم.. وإنهم ليعرفون أنهم على ضلال، ولكن الحسد الذي يأكل قلوبهم جعلهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن عمد وإصرار.
وإن إنسانا يستبدّ به العناد إلى هذا الحدّ، ويتسلط عليه الهوى إلى هذا المدى الذي يشوّه به معالم وجوده بيده- إن إنسانا كهذا الإنسان لن يرجع إلى اللّه أبدا، ولن تزيده الأيام إلا عمى وضلالا.. فقد استشرى به الداء، وهيهات أن يكون له دواء: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} [10: البقرة].
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً} ما يكشف عن معدن هؤلاء القوم، وأنهم كلّما امتد الزمن بهم كلما ازدادوا عتوّا وكفرا.. ومن كان هذا شأنه فإنه لا يرجى له صلاح ولن تكون منه إلى اللّه رجعة.
وفى قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} تيئيس لهم من التوبة التي إن أعلنوها بألسنتهم في حال ماء أنكروها بقلوبهم، وشهد على إنكارهم سوء أعمالهم.
وفى قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وجه آخر، هو أنهم- واللّه أعلم- قد لبسوا من الكفر غير ما يلبسه الكافرون.. إذا كانوا على الإيمان، فجعلوه، وارتدوا الكفر الذي لن يزايلهم أبدا، فإذا تاب تائبهم.. وهو على تلك الحال- فلن تقبل توبته، بمعنى أنه لن تمضى له هذه التوبة إلى آخر عمره، بل إنه راجع لا محالة إلى ما كان عليه من الكفر الغليظ الذي تلبّس به.
وبهذا تكون توبته تلك كلا توبة.. فقوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي لن تقبل قبولا مثمرا، ينتهى بصاحبه إلى الهدى والإيمان.. إذ كانت التوبة غير خالصة للّه وللحق! وقوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} الإشارة هنا إلى هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، ثم لم يكن اللّه ليقبل توبتهم.
{وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أي الذين استغرقهم الضلال، واشتمل عليهم.
فلا مخرج لهم منه إلى هدى.

.تفسير الآية رقم (91):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)}.
التفسير:
هذا الحكم وإن كان عاما يلحق الكافرين الذين ماتوا وهم على كفرهم، إلا أنّه يتجه اتجاها مباشرا إلى اليهود، الذين أبعدهم الرحمن من رحمته، وتركهم مع كفرهم وضلالهم، وأغلق في وجههم باب التوبة والقبول، وذلك لأنهم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد علم، ثم اجترءوا على اللّه، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته.
وإنهم وقد أيأسهم اللّه من الرجوع إليه، سيمضون على ما هم فيه من كفر، وسيموتون كافرين.
ومن كان على تلك الصفة، فالويل له من عذاب يوم عظيم! وفى قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} أمور منها:
أولا: أن المال الذي هو دين اليهود، والذي من أجله استرخصوا الدّين، واستخفوا بآيات اللّه، ليحتفظوا بمراكزهم الاجتماعية في مجتمعهم الفاسد- هذا المال الذي هم تاركوه وراءهم لن يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة.
ثانيا: التعبير بالذهب عن المال، سواء كان ذهبا أو فضة، أو ضياعا أو دورا وقصورا ودوابّ- لأن الذهب هو المقياس الذي تعرف به قيمة كل مال، وهو الذي به ينال كل مال مطلب.
ثالثا: في قوله تعالى: {أَحَدِهِمْ} ما يشعر بالاستخفاف بهذا المال، وبقلّة جدواه في هذا الموقف، وأنه لو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا ما نفعه! فكيف وهو لا يملك من هذا المال ما يملأ حفرته من الذهب؟ فإن بلغ في الغنى أقصى مدى فلن يملك مصرا من الأمصار! وأين هذا الذهب الذي يملأ هذا المصر الذي ملكه؟
رابعا: في قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدى بِهِ} ما يكشف عن بعض البلاء النازل بهذا الذي كفر باللّه، في هذا اليوم، وأنه لو كان له ملء الأرض ذهبا لسمحت به نفسه في غير تردد أو مساومة، ليدفع هذا البلاء، ويخلص بجلده.. وانظر كيف يسمح يهودى بهذا الذهب كلّه، ولا تنازعه نفسه إلى أن يحتجز بعضا، ويترك بعضا؟ ولقد كان مستعدا في حياته الدنيا أن يبيع نفسه، لمن يشتريها- وقد باعها فعلا- لقاء حفنة من تراب هذا الذهب فكيف يلقى بهذا الذهب كله من يده؟ إنه العذاب الأليم الذي يجعله يذهل عن كل شيء حتى المال، وحتى الذهب.

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}.
التفسير:
فى الآية السابقة أهدرت قيمة الذهب، فكان لا ثمن له في يد من يملكه، ولو كان ملء الأرض! إذ ما ذا ينفع المال في هذا اليوم، الذي لا بيع فيه ولا شراء؟
ومن هنا لم يكن لهذا المال الذي قدمه الكافر فدية له، وهو مال كثير، يملأ وجه الأرض كلها- لم يكن له أي أثر في رفع شر أو جلب خير!.. إنه مال مزهود فيه، لا تلتفت إليه عين، ولا تمتد إليه يد، فهو والتراب سواء! وفى هذه الآية يبين اللّه تعالى أن المال الذي يبذل، وللأنظار مطمح فيه، وللقلوب علقة به، وللنفوس هوى إليه- هو المال الذي يدفع به الشر، ويجلب به الخير.
وإذ كان ذلك كذلك، فإن المال المبذول في سبيل اللّه لا يبلغ بصاحبه منزلة الأبرار المقبولين عند اللّه، حتى يكون هذا المال أحبّ شيء عنده وآثره. إذ هنا يكون صاحب المال قد جاهد نفسه، وغلب هواه، وقهر دواعى الأثرة عنده، حتى نزل عن هذا الشيء المحبوب عنده، وأنفقه في وجوه الخير، طمعا في مرضاة اللّه، وابتغاء رضوانه.. وبهذا ينال ثواب المجاهدين، ويعطى أجر العاملين.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [69: العنكبوت].

.تفسير الآيات (93- 95):

{كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}.
التفسير:
عبث اليهود بآيات اللّه، وحرّفوا وبدّلوا في كلماته، وأداروا دينهم على الوجه الذي يغذّى نزعاتهم، ويشبع أهواءهم، فأحلّوا وحرّموا، غير ما أحلّ اللّه، وغير ما حرم، وقد فضحهم القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته، فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [46: النساء] ولم يقف بهم الأمر في تحريف كلمات اللّه وتبديلها عند حدّ، فتقوّلوا على أنبيائهم، ورموهم بالكبائر والمنكرات، وجحدوا رسالة محمد وما حدّثت به التوراة عنه، ثم تجاوزوا هذا إلى ما يتصل بشئونهم الخاصة التي رسمتها لهم شريعة موسى.. من القصاص في القتلى، وحدود المحرمات، وما حرّم اللّه عليهم من طيبات كانت حلّا لهم من قبل أن تنزّل التوراة، نكالا لهم، جزاء كفرهم بآيات اللّه!
وفى كل هذا كانت تنزل آيات القرآن الكريم فاضحة لهم، ناشرة على الناس ضلالهم وافتراءهم على اللّه، وعدوانهم على حدوده.
فحين نزل فيهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [160: النساء] وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [146، 147: الأنعام]- حين نزل فيهم هذا القرآن الذي يتهمهم بالبغي والعدوان، وأنهم عوقبوا ببغيهم وعدوانهم هذا العقاب الذي حرّم اللّه به عليهم ما كان حلّا لأسلافهم من قبل أن تنزل التوراة- حين قال فيهم القرآن هذا جعلوا يبدون العجب والدّهش، ويقول قائلهم: ما هذا القول الذي يحدّث به محمد عنّا؟ وكيف تبلغ به الجرأة على الحق أن يغيّر ويبدّل في شريعتنا؟
وقد ردّ القرآن عليهم قبل أن ينطقوا بهذا الذي نطقوا به، ورصد لهم الجواب الذي يفحمهم ويخزيهم، قبل أن يتساءلوا ويعجبوا، في خبث صبيانى مفضوح، فدعا اللّه تعالى نبيّه أن يلقاهم بهذا الردّ إن هم كذبوه فيما يتهمهم به القرآن من كذب على اللّه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فمع سعة رحمة اللّه وشمولها، فإنها لا تنال هؤلاء المجرمين الذين رماهم اللّه ببأسه ونقمته، فحرم عليهم طيبات ما أحلّ.. وقد فضحهم اللّه في قوله سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [116: النحل] وفى قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ} إشارة إلى أن الأصل في الطعام أن يكون مطلق الحلّ، يتناول منه الإنسان ما ترضاه نفسه، وتطيب به.. إن ذلك شأن من شئون الناس.. فما استساغته النفوس وقبلته، فهو حلّ مباح لها، وما عافته واستقذرته لم يكن لأحد أن يحملها على تناوله.
فهذه أنواع الحيوان، وأجناس الطير.. لكل نوع طعام، ولكل جنس ما يغتذى به، ويقيم حياته عليه، إذ يعيش بعضها على النبات، وبعضها على الحبوب، وبعضها على الثمار، كما تعيش أصناف منها على اللحم، وأصناف أخرى على العشب! فإذا عرض على الحيوان آكل العشب بعض قطع اللحم لم يمدّ فمه إليها، والعكس بالعكس.. وهكذا كل صنف وكل نوع، يسعى وراء الطعام الذي ساغته نفسه وقبلته طبيعته! والإنسان شأنه شأن الحيوان في هذا.. له أن يأكل مما تنبت الأرض، وما تحمل على ظهرها من حيوان، ما دام المأكول مستساغا عنده، مقبولا لديه! وطبيعى ألا يستسيغ الإنسان كل شيء أو يقبل كل شيء.. فقبل كثيرا، ورفض كثيرا، وهو حرّ في القبول وفى الرفض.
ذلك شأن الإنسان، وهكذا ينبغى أن يكون شأنه.. الأمر متروك له، فيما يتخيّر من طعامه، وشرابه! ولكنّ العناية الإلهية كانت ولا تزال دائما أبدا تمدّ الإنسان بنصحها، وإرشادها، حتى يستقيم على الطريق القويم. فأرسل اللّه رسله يحملون إلى الناس الهدى والرشاد، ويؤذّنون فيهم بكلمات اللّه، وما فيها من وعد ووعيد، إذ كان الإنسان أهلا لأن يخاطب من قبل اللّه، وأن تحمل إليه كلمات اللّه، وما فيها من نور وهدى! فكان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإباحة الحلال وحظر الحرام، مما بينته للناس شريعة السماء، وأمرت بالوقوف عند حدوده! وفى الطعام والشراب جاءت الشريعة السماوية بالإباحة المطلقة لكل ما هو طيب، كما يقول اللّه تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [172: البقرة] ويقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [87: المائدة].
وقد يكون من العجب أن تحرّم الشريعة السماوية على الناس بعض ما يشتهون، أو بعض ما يجدون له مساغا بوجه من الوجوه! ويقوم هذا العجب حين ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الحيوان، ونقيسه عليه، ونسوّى بينهما في القياس، وعندئذ يحوز لقائنا أن يقول: إذا كان الحيوان قد أطلق له الأمر في اختيار طعامه وشرابه، والاستدلال بغريزته على ما يصلح له وما لا يصلح، أفلا يطلق للإنسان الأمر في اختيار طعامه وشرابه، والتمييز بعقله وخبرته بين النافع منها والضار؟ أليس من باب أولى أن يكون الإنسان سيد نفسه، وصاحب أمره في هذا الأمر في هذا الأمر الذي يتهدّى إليه الحيوان بطبيعته؟
ولكن يردّ على هذا، بأن الإنسان أكرم على اللّه من الحيوان، بما حباه من عقل، وما جعل له بهذا العقل من سلطان الخلافة على هذه الأرض.. ولهذا تولّى اللّه سبحانه هدايته، وخاطبه- كما قلنا- على لسان رسله بكلماته وآياته.
وقد جاءت آيات اللّه إلى الإنسان لتحرر إرادته من الهوى المتسلط عليه، وتجلى عن عقله غيوم الجهل والضلال التي تخيم عليه بين الحين والحين.
وكما جاءت آيات اللّه لتحرر إرادة الإنسان، وتصحح وجدانه، وتنير عقله، جاءت أيضا إلى الجانب المادىّ منه، لتغذّى جسمه بالغذاء الطيب، ولتحول بينه وبين أن يطعم الخبيث، حتى يسلم له كيانه كله، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا! ومن هنا كان ما فرضته الشريعة السماوية من تحريم الخبيث من الأطعمة على المؤمنين- استعلاء بالإنسان، واستكمالا للكمال المنشود له، بل والمطلوب منه.
وهذا ما فعلته الشريعة الإسلامية مع أتباعها فيما حرمت عليهم من مطاعم، فيقول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ} وهى جميعها مطاعم تأباها النّفوس الطيبة، وتعافها الطبائع السليمة، بل إن بعض الحيوانات آكلة اللحوم تأبى أن تأكل الميتة، ولو هلكت جوعا.. كالأسد مثلا، فإنه لا يقرب الميتة أبدا! فالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والحيوانات التي تموت غير ميتة طبيعية، كالمنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع منها.. كل هذه مطاعم لا تقبلها نفس طيبة، ولا تسوغها طبائع سليمة.
وهناك مطاعم حرّمها الإسلام لا لذاتها، ولكن لما أحاط بها من جوّ كريه، يفسدها، ويفسد طعمها على آكليها، كتلك التي تذبح قربانا للأوثان، ومثلها جميع مطاعم الوثنيين.. حيث تفوح منها ريح الشرك باللّه، والكفر به.. فهى والحال كذلك طعام ملوّث بالشرك باللّه، فمن طعمها طعم الشرك معها.
وكالخمر التي حرمتها الشريعة الإسلامية، إنها شراب مشوب بداء يغتال العقل، وتذهب به حميّا خمارها وسكرها.. وعندئذ ينزل الإنسان عن إنسانيته التي يحرص الإسلام على أن يستبقيها في كيان المخلوق الذي كرمه اللّه.. ومن أجل هذا كان تحريمها.
فهذه المحرمات من المطعومات والمشروبات، هي حماية للإنسان من أن ينزل عن إنسانيته، واستعلاء به، واستكمال للكمال المنشود له.
وكما يكون تحريم بعض الأطعمة والأشربة لطفا من ألطاف اللّه بالإنسان، والاستعلاء به على الخبائث- يكون التحريم في حال أخرى، ضربا من الهوان والإذلال للإنسان، وابتلاء وإعناتا له، حين يدفع عن الطيب، ويذاد عن الشهىّ، نكالا له بما كسب من ظلم، وما جنى من بغى.. فكان هذا العقاب له، من واردات الظلم والبغي، وإن لم يكن ظلما ولا بغيا، ولكن هكذا يجزى الظالمون البغاة.. {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام] فقد كانت المطاعم كلّها حلّا لبنى إسرائيل، لم يحرّم عليهم شيء منها إلا ما تعافه النفس، وتزهد فيه.. ومع هذا فإنه كان إذا ورد واردهم على الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو الخمر، فإنه لا إثم عليه فيه، حيث لم يكن هناك حدّ شرعىّ، يفرق بين طعام وطعام.
ومع أن هذا الإطلاق يرفع الحرج عنهم في أن يطعموا أي طعام يريدون- فإنه يحمل في طياته الوقوف بهم عند مستوى من الإنسانية، دون هذا المستوي الكريم، الذي ندبت له الشريعة الإسلامية أتباعها، فحرمت عليهم ما حرمت من مطاعم، ولم تجعل ذلك إلى أتباعها، يطعمون منها ما شاءوا متى شاءوا، بل حرمت عليهم بعض الأطعمة تحريما قاطعا، وأثمت من ينال منها إلا عند الاضطرار، ودون مجاوزة حد الاضطرار.
لم تحرّم الشريعة على بنى إسرائيل شيئا مما يطعمون إلّا ما حرم إسرائيل- وهو يعقوب- على نفسه من أطعمة استقذرها، وعافتها نفسه، فجعل ذلك حراما ملزما نفسه إياه! فلما جاء موسى عليه السّلام، إلى بنى إسرائيل، وطلع عليهم بآيات اللّه، وملأ الحياة عليهم بالمعجزات.. ثم لم يكن منهم إلّا العناد، والإغراق في الضلال، والمكر بآيات اللّه- فكان أن أخذهم اللّه بالبأساء والضراء، وضرب عليهم التّيه في الصحراء، وابتلاهم بتحريم العمل في يوم السبت، فلم يطيقوا، وعملوا في هذا اليوم، فرماهم اللّه باللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير! ثم ابتلاهم اللّه بما حرّم عليهم من طيبات الطعام، التي ذكرها اللّه سبحانه في القرآن الكريم، والتي جاءهم بها موسى في التوراة، وبيّن اللّه فيها أنها نقمة وابتلاء، وبلاء! كما يقول اللّه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام].
ونقرأ الآية الكريمة، التي تحدّث اليهود بما في التوراة التي في أيديهم، عن تلك المطاعم التي حرمها اللّه عليهم، نكالا وابتلاء.
{كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
ففى التوراة مثل ما في القرآن من هذا الأمر.. ولكن القوم يكابرون، وينكرون أن يكون في التوراة شيء من هذا الذي يحدثهم به القرآن.
ويمضى القرآن دون أن يلتفت إليهم.. إنه الصدق المطلق الذي يجدونه بين أيديهم، وإن أنكروه بألسنتهم، فهو يتحدث إليهم بصوت صارخ من التوراة: أن كذبتم وافتريتم.. فألجموا ألسنتكم، ودعوا هذا الافتراء الذي أنتم فيه.
{فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ولكن هيهات أن يكفّ القوم عن الكذب والافتراء.. وتلك بلية أخرى، وداء يضاف إلى أدواء. ولا يقف القرآن ليسجل عليهم ما يثرثرون به، من كذب وافتراء، بعد كذب وافتراء، بل يمضى في طريقه، يؤذّن بالحق، ويدعو إليه من شاء أن يكون من أهله.
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
.. فإن ما ينطق به القرآن هو كلمات اللّه، التي هي الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفى قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على ملة إبراهيم التي يدّعون- زورا وبهتانا- أنهم عليها، فإن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وهؤلاء ليسوا بالحنفاء ولا بالمسلمين، ولكنهم كفروا وأشركوا، وضلوا ضلالا بعيدا.